منذ نعومة أظفارنا ونحن نحفظ ونردد في مدارسنا كل أناشيد الوطن من .. بلادي بلادي منار الهدى .. إلى سارعي للمجد .
كان الحديث عن حب الوطن حديثاً نردده مع كل معلم ولو كان مقيماً .. كانت علاقتنا بالوطن في طفولتنا نشيد وأهازيج وأصبح اليوم في زمن أبنائي أوبريت واحتفالات راقصة يخرج الجميع بعدها وقد أجادوا الرقص وأعجبتهم الألحان ولم يبقى للوطن والانتماء شيء .
لم يطرح المخلصون اليوم في إعلامنا ... كيف نعزر الانتماء لدى المواطن ؟ كيف يتحول الوطن إلى قصة حب ؟ ما حق المواطن على وطنه ؟ لماذا يجحد الوطن أبنائه ؟
أسئلة كثيرة لا مجيب لها !! في ظل ضجيج إعلامي محموم يضم عشرات التهم المعلبة و الجاهزة في حقك
( حاقد .. ناقم .. أصولي .. تكفيري ....
قبل أسابيع كتب أخي الحبيب الدكتور محمد الحضيف مقالاً يبكي فيه ابنته المواطنة ( هديل ) رحمها الله و التي عجز الوطن بكل ثرواته وإمكاناته أن يجد لها سريراً تعالج فيه .
لقد كان حديث الحضيف مبكياً ومؤلماً وهو يرى صورة من صور جحود الوطن لأبنائه ، لقد بكينا معه على هديل - رحمها الله - ولم نبكِ على الوطن لأننا لم نعش ذلك الموقف لنبكي كما بكى .
في يوم الخميس 10/5/1429هـ عشت مع زوجتي بكاء الوطن .
بعد فجر هذا اليوم شعرت زوجتي بألم شديد كونها حاملاً في الشهر الثامن .. اتصلت عاجلاً بطبيبة النساء و الولادة القريبة من منزلي وكانت تعالج زوجتي منذ بداية حملها .. حضرت مسرعة وبعد الكشف طلبت مني وعاجلاً نقلها إلى أقرب مستشفى فهي على وشك ولادة مبكرة وتحتاج إلى عملية قيصرية وحاضنة للمولود والتأخر في ذلك يؤدي إلى انفجار الرحم وموت الجنين ... كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحاً ..أخذت زوجتي مسرعاً بسيارتي إلى مستشفى الحمادي والذي اعتذر لعدم وجود حاضنة للطفل وكذلك فعل مستشفى دلة .. كان موقفاً صعباً ، فزوجتي بدأت تشعر بزيادة الألم .. اتصلت بعدد من المستشفيات الخاصة فلم أجد حاضنة للطفل .. عدت فاتصلت بطبيبتها فطلبت مني الذهاب إلى مدينة الملك فهد الطبية ، وكانت قد زودتني بتقرير يشرح حالة زوجتي .
وصلت إلى مدينة الملك فهد الطبية .. لم أجد موظف الاستقبال .. بحثت عنه لأجده عند موظف الأمن يشرب الشاي .. أخذته سريعاً إلى الاستقبال .. قدمت له خطاب الطبيبة ثم أخرجت مزهواً بطاقة العائلة ليعلم أن زوجتي مواطنة أباً عن جد .. . أدخلت زوجتي إلى قسم النساء وقد كتب على اللوحة ( ممنوع دخول الرجال ) بينما كان العاملون في الصيانة و النظافة وغيرهم يدخلون ويخرجون [ ربما هم في عرف وزارة الصحة ليسوا رجالاً ] .
بعد دقائق .. اتصلت بي زوجتي وهي تبكي .. تقول : أن مجموعة من الممرضات يصرخن في وجهي .. ليس عندنا حاضنة .. اخرجي .
أخبرت موظف الاستقبال بذلك فاتصل وعاد يقول لي لا مكان لزوجتك ولا حاضنة للمولود .. تسألت وإن رفضت خروجها .. قال : الجنين هو الضحية .. سألته بصدق [ لو كانت ابنة وزير الصحة أو ابنة أمير أو مسئول هل ستطرد ويرفع عليها الصوت ويقال : لا مكان لها ؟!!!!!!!! ] صمت ولم يجب ...
أخذت زوجتي وقد أصابها الإعياء الشديد و البكاء الحار خوفاً على جنينها .
خرجت بسيارتي وأنا أتأمل هذه المدينة الطبية والتي شيدت للوطن والمواطن ، فلم يبقى للوطن سوى مباني شاهقة وجامدة ، ولم يبقى للمواطن سوى الإهانة والموت .
خرجت وأنا أتسأل ........
ما هو معيار المواطنة عندنا ؟!!
هل هي القبيلة ؟ أم الشهرة ؟ أم المال والجاه ؟ أم المصلحة ؟ !!
لقد استرجعت وأنا أخرج من مدينة الملك فهد الطبية ما جرى لتلك المذيعة التلفزيونية - شفاها الله وعافاها - من استقبال حافل في المدينة ، حتى أن وزير الصحة ومساعديه حضروا بأنفسهم وتحدثوا أكثر من زوجها .
هذه هي مدينة الملك فهد الطبية والتي استقبلت خلال كتابتي لهذا المقال ( لورا بوش ) وظهر المدير التنفيذي مزهواً بالزيارة وهو يكرم لورا ، والتي أشادت بجهود المدينة الطبية ، ولم تعلم لورا أن أبناء الوطن يطردون بل ربما يموتون عبر هذه المدينة الطبية .
كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً واليوم الخميس .. اتصلت بعدد من الأطباء ممن أعرف ولم أجد رداً فقد كانت هواتفهم مغلقة .. رد أحدهم وكان استشارياً فاضلا في أحد المستشفيات الحكومية .. شكوت له الحال فلم يستغرب ذلك ، وقال : أن الوضع الصحي أسوأ مما تتوقع .. قلت له : ماذا أفعل وزوجتي معي الآن في السيارة ؟؟ . لقد كان يشعر بما أنا فيه فاتصل مشكوراً بعدد من المستشفيات بحثاً عن حاضنة ولم يجد ، ثم طلب مني الذهاب إلى مركز رجال الأعمال بمستشفى الحرس الوطني .. توجهت مسرعاً وكانت الإجابة لا يوجد حاضنة .. اتصلت بعدد من المستشفيات الخاصة فلم أجد حاضنة .. مع مرور الوقت أخذت زوجتي تذكرني بالحرص على أبنائي والاهتمام بصلاتهم .. علمت حينها أنها وصلت إلى مرحلة اليأس من حالها وربما خشيت الموت ولذا أخذت تذكر الله وتتشهد ...
اتصلت بمستشفى ( رعاية الرياض ) .. أجاب الموظف عن وجود حاضنة ... فتوجهت سريعاً إلى الإسعاف وأدخلتها ، أحيلت مباشرة إلى قسم الولادة طلبت مني الطبيبة مراجعة قسم الدخول والذي أفاد أن علي الآن توفير مبلغ ( 100 ) ألف ريال قلت هذا مخالف لتعليمات وزارة الصحة في ذلك ولكن الموظف رفض أي إجراء حتى يتم دفع المبلغ كاملاً .. دفعت مبلغ ( 20 ) ألف ريال وهو الحد الأعلى للسحب عن طريق البطاقة وسحبت ( 5000 ) أخرى عن طريق جهاز الصراف الآلي فأصبحت ( 25 ) ألف ريال ومع ذلك رفض الموظف أوضحت له أن في حسابي أكثر من ( 100 ) ألف ريال ولكن من الصعوبة الآن الذهاب إلى بنك ونحن في يوم الخميس وأخواني وزملائي في هذا الوقت نائمون ولكنه رفض .
طلبت منه إعطائي فرصة إلى المساء لتوفير المبلغ ولكن رفض بعد نصف ساعة اتصلت ببعض أقاربي وتم حضورهم سريعاً لإكمال المبلغ .. أما حال زوجتي فقد كانت تبكي و ترجو طبيبة النساء والولادة إجراء العملية خوفاً على جنينها ، لكن رفضت التعامل معها حتى يتم توفير المبلغ كاملاً ..
تم إدخال زوجتي إلى غرفة العمليات وجلست أنتظر وقد تحجرت الدموع في عيني ؟
لم أتألم لحال زوجتي ومولودي القادم فقط ..!!
ولكن تألمت أشد الألم أن يتحول الطب إلى تجارة !!
الألم أن تغيب مفاهيم إسلامية عند القائمين على هذا المستشفى مقابل تحقيق ربح مادي ، في حين تبرز مفاهيم إنسانية عند مستشفيات الغرب الكافر ورجالاته .
لقد دفعت ( 100 ) ألف ريال وكنت بحمد الله قادر وبفضل الله أنقذت زوجتي ومولودي من جشع وطمع مستشفى (رعاية الرياض) .
لكن ... ماذا يفعل عشرات بل ألوف من المواطنين الذي لا يملكون في حساباتهم سوى راتبهم الشهري ؟ .... هل يموتون ؟!!!!
أسندت رأسي متعباً ... ومرت أمامي صور عديدة مؤلمة ...
كانت صورة ( مهند جبريل أبو ديه ) ذلك الشاب الموهوب والذي فقد قدمه نتيجة جشع طبي ..
صورة ( هديل) وهي ترحل من الدنيا بعد أن عجز الوطن الكبير أن يجد لها سريراً يضمها ..
صورة تلك الطفلة التي ماتت برداً في وطن تشتعل فيه أضخم أبار البترول ..
قبيل المغرب .. خرج إلى الدنيا مولود جديد كان من حفظ الله له أن يجعل في حاضنة خاصة يستنشق منها الهواء الصناعي لأن هواء مستشفى ( رعاية الرياض ) غير صحي وقد يصيبه بمرض الجشع وتبلد الإحساس كما أصاب العاملين فيه .
خرج المولود إلى الدنيا ، فماذا سنقول له غداً عن الوطن الذي طرد أمه من أحد مستشفياته وكاد أن يساهم في موته ..!!!!
يا أيها الوطن الكبير ... ماذا بقى لك من ولاء وقد تحول أبناؤك يستجدون [ مقيماً سودانياً ] ليفزع لهم بالدخول إلى مستشفى حكومي .
يا موطني ... لقد رفعت اللوحات من أجلك في كل مكان [ أرفع رأسك .. أنت سعودي ] فهل بقى لأبنائك رأس مرفوع وهم يطردون ، ويقعون فريسة لمستشفيات خاصة تنعم بخيرات هذه البلاد !!!!.
يا موطني ... في دولة خليجية مجاورة .. احترق مستشفى وأصيب أفراد .. فهاج الناس واستقالت وزيرة الصحة .. أما أنت فيموت الناس وتسقط المباني ويبتسم الوزير ويتحول إلى شيخ جليل يشرح لنا باب القضاء و القدر .
يا موطني .. في جميع دول العالم .. يقوم الوزير بزيارة مفاجأة لا يعلم عنه أحد ليكشف خطأ أو يقف على شكوى .. أما أنت فيُسبق الوزير بوفد صحفي ومصورين ، ثم يقال كانت زيارة مفاجأة قام بها الوزير فلم يصحح الوزير خطأ أو يدعم عملاً.. بل التقطت له الصور وكأنه لاعب رياضي .
يا موطني ... لقد كانت زوجتي دائماً ما تعاتبني إذا تحدثت عن تقصير موجود لدينا ، أو نقدت وزارة أو وزير ، أو طالبت بحق المواطن في موطنه ، ودائماً ما تقول : أنت تبالغ ونحن أفضل من غيرنا .. هل تعلم ماذا قالت في أول حديث لها بعد خروجها من العملية ؟؟ لقد قالت : لست من هذا البلد ، بل أنا وأشارت إلى بلد خليجي مجاور .
القضية يا سادة ... ليست قضية زوجتي وطفلي .. بل هي قضية وطن ومواطن وولاء ..
من يوقف هذا النزيف من الأخطاء و الجشع ؟
من يعيد لكل مواطن حقه في وطنه ومكتسباته ؟
من يضرب بيدٍ من حديد كل عابث وطامع ؟
من يحفظ لكل مواطن كرامته من أن تهان ؟
ومضة :
لما قام الأمير الراحل عبدا لمجيد بن عبدا لعزيز - رحمه الله - بزيارة إلى مركز العيص وهي بلدة تابعة لمنطقة المدينة المنورة ، وكان الأمير حينها أميراً للمدينة ، وقد وصلها رحمه الله بطائرة (هليكوبتر ) لعدم وجود طريق مسفلت لها ... استقبله الأهالي بكل حب وولاء وتأثر الأمير لما رأى حال البلد وانعدام الخدمات فقال لهم :
( والله إن أبناء عبدالعزيز لا يرضون بذلك أبدا ً )